لويس كامبوس… مهندس الظل الذي بنى باريس الحقيقي
في لحظة فارقة من موسم بدا للوهلة الأولى غامضًا في ملامحه، وقف باريس سان جيرمان شامخًا بعد إسقاطه لأرسنال في موقعة أوروبية جسّدت تحوّله من فريق يعتمد على الأسماء إلى منظومة متكاملة تُرعب كبار أوروبا. وبينما تتجه الكاميرات نحو كيليان مبابي وتُرفع القبعات لتكتيك لويس إنريكي، يقف في الظل رجل يعرفه القليلون لكن أثره حاضر في كل تمريرة، كل صفقة، وكل صعود تدريجي في مسار المشروع: لويس كامبوس، المدير الرياضي الذي لا يضيء اسمه في العناوين الكبرى، لكنه من يكتبها بين السطور.
رحلة البدايات: مدرب لم يكتمل حلمه، لكنه وجده في الإدارة
لويس كامبوس لم يولد تحت أضواء الكرة، ولم يصعد عبر سلم النجومية، بل بدأ كمدرب مغمور في الدرجات الدنيا للكرة البرتغالية. تنقل بين أندية صغيرة، حتى وصل إلى تدريب فاريزيم، لكنه أدرك مبكرًا أن إمكانياته كمدير فني لن توصله بعيدًا في هذا العالم المتوحش، فاختار التراجع عن خط التماس، ليتجه إلى مقاعد التخطيط والتحليل.
مع ظهور علم البيانات وتحليل الأداء في كرة القدم الحديثة، وجد كامبوس فرصته الذهبية. التحق بفريق عمل جوزيه مورينيو في ريال مدريد عام 2012 كمستشار فني ومحلل أداء، وهناك بدأ في نسج خيوط علاقات قوية مع لاعبين ووكلاء وأندية، عرف من خلالها دهاليز المهنة من أبوابها الخلفية.
موناكو: حيث بدأت الحكاية الحقيقية
انطلقت مسيرة كامبوس الإدارية بجدية حين تولّى مهمة المدير الرياضي في موناكو عام 2013، وكان النادي حينها في بداية مشروع طموح بالعودة إلى قمة الكرة الفرنسية والأوروبية. وضع كامبوس بصمته منذ اللحظة الأولى، وتحوّل سريعًا إلى صانع سوق لا يُجارى.
في سنواته بموناكو، تعاقد مع أسماء مجهولة حينها مثل فابينيو من ريو آفي، برناردو سيلفا من بنفيكا، توماس ليمار من كاين، وبنيامين مندي من مرسيليا. لم تكن هذه صفقات فقط، بل كانت بناء منهجيًا لفريق شبابي متعطّش للتوهج. بلغ الفريق نصف نهائي دوري أبطال أوروبا في 2017، ونافس باريس على اللقب المحلي بل وتفوّق عليه في موسم استثنائي. في تلك الفترة، أصبح كامبوس واحدًا من أكثر مديري السوق شهرة في أوروبا، بقدرته على جلب اللاعبين بثمن بخس وبيعهم لاحقًا بأرقام فلكية.
ليل: تأكيد العبقرية خارج الأضواء
بعد مغادرته موناكو، قرر كامبوس خوض تجربة أخرى لا تقل تحديًا. انضم إلى نادي ليل كمدير رياضي، وهناك كرر المعجزة ولكن بطريقة أكثر إبداعًا. جلب لاعبين مثل نيكولا بيبي من أنجيه، فيكتور أوسيمين من شارلروا، ريناتو سانشيز من بايرن ميونيخ في وقت اعتبره البعض صفقة "فاشلة"، ومايك ماينان حارسًا بديلاً لم يُلتفت له كثيرًا.
نجح ليل في الفوز بالدوري الفرنسي موسم 2020-2021 متفوقًا على باريس المليء بالنجوم. لم يكن ذلك مجرد إنجاز عابر، بل شهادة تفوق لنهج كامبوس: لا للأسماء الرنانة، نعم للمشروع القائم على الجودة والانضباط والسوق الذكي.
كامبوس وباريس: البداية من نقطة الصفر
حين تعاقد معه باريس سان جيرمان في صيف 2022، لم تكن المهمة سهلة. كان النادي يعاني من فائض نجوم بلا انسجام، إدارات متعاقبة تتداخل في عمل المدربين، ومشروع يعتمد على الأسماء أكثر من الفكرة. كل ذلك كان يجب تغييره، وليس من السهل فعل ذلك في نادٍ بحجم باريس، تحت ضغط جماهيري وإعلامي هائل.
أول ما فعله كامبوس هو إعادة ضبط بوصلة التعاقدات. لم يعد يبحث عن نجم غلاف، بل لاعب يسد حاجة في الفريق. جلب نونو مينديز، فابيان رويز، أوغو إيكيتيكي، وجدد الثقة في لاعبين شباب مثل زاير إيمري، كما فتح الباب أمام ظهور وجوه جديدة من أكاديمية النادي.
ثم جاء القرار الحاسم: التعاقد مع لويس إنريكي كمدرب للفريق. مدرب يؤمن بالتحكم، ببناء اللعب من الخلف، وبكرة قدم تفاعلية لا تعتمد على نجم أوحد. رأى فيه كامبوس الشريك المثالي لرؤيته، وبدأت بينهما شراكة نادرة في كرة اليوم، قوامها الثقة والتكامل لا الصدام والصراع على الصلاحيات.
خلف الكواليس: كيف يدير كامبوس كل شيء دون أن تراه؟
ما يميز كامبوس هو عمله المستمر خلف الستار. لا يظهر في المؤتمرات الصحفية، ولا يدخل في معارك إعلامية، لكنه حاضر في كل قرار. ينسق يوميًا مع إنريكي، يراجع تقارير الكشافة، يضع استراتيجيات قصيرة وطويلة المدى، ويعمل مع الفئات العمرية في النادي لصقل المواهب ودمجها ضمن المنظومة.
يراقب اللاعبين نفسيًا وسلوكيًا، لا فقط بدنيًا. معروف عنه أنه يرفض التعاقد مع لاعب موهوب إذا شعر أن انضباطه أو ثقافته لا تتماشى مع طبيعة الفريق. لذلك يُعتبر فريقه ليس فقط قويًا فنيًا، بل منضبطًا ذهنيًا وتكتيكيًا.
تعاقدات بتوقيع كامبوس: دراسة حالة
نونو مينديز: موهبة برتغالية شابة رآها كامبوس منذ سنوات في سبورتنج لشبونة. ظهير عصري، قادر على التحول من الدفاع للهجوم بسلاسة. جاء بمبلغ معقول وأصبح ركيزة لا غنى عنها.
فيتينيا: لاعب وسط صاحب عقل تكتيكي مميز، تحوّل في يد إنريكي إلى محور لعب متحرك بفضل ثقته ودعمه الكامل من كامبوس.
زاير إيمري: جوهرة الأكاديمية التي حافظ عليها كامبوس وفرض لها برنامجًا تدريبيًا ونفسيًا خاصًا لتسريع نضوجها، حتى أصبح أحد أفضل المواهب في أوروبا وهو لم يتجاوز الـ18 عامًا.
ما بعد مبابي: التحدي الأكبر
رحيل كيليان مبابي إلى ريال مدريد في صيف 2024 كان نقطة تحول. بدلاً من محاولة تعويضه بنجم آخر، ركز كامبوس على تعزيز الفريق بلاعبين موهوبين مثل جونزالو راموس، الذي أثبت نفسه كمهاجم فعال، وخفيتشا كفاراتسخيليا، الذي أضاف بعدًا هجوميًا جديدًا. كما أصبح عثمان ديمبيلي هداف الفريق، مما يعكس نجاح استراتيجية كامبوس في توزيع المسؤوليات الهجومية.
بفضل هذه الاستراتيجية، حقق باريس نتائج مميزة هذا الموسم، حيث تصدر الدوري الفرنسي ووصل إلى نهائي دوري أبطال أوروبا. الفريق أصبح أكثر توازنًا، مع دفاع قوي وهجوم متنوع، مما يجعله منافسًا قويًا على الساحة الأوروبية.
إرث كامبوس الذي لا يُرى، لكنه يُشعر
في كرة تتسابق فيها الأندية على جذب الأضواء، اختار لويس كامبوس طريقًا مختلفًا. طريقًا لا يظهر فيه اسمه على قمصان الجماهير، لكنه محفور في منظومة العمل، في شخصية الفريق، وفي ثقة الجماهير بأن القادم أفضل.
ما فعله كامبوس في باريس سان جيرمان ليس مجرد انتقالات ناجحة، بل إعادة بناء لهوية نادٍ ضل الطريق لسنوات. ومع إنريكي، يبدو أن باريس بات أقرب من أي وقت مضى لتحقيق الحلم الأوروبي، ليس بنجوم فرديين، بل بمنظومة تُدار بعقلانية من رجل لا يحب الكاميرات، لكنه يصنع الفرق في كل مشهد.